• ١٨ كانون أول/ديسمبر ٢٠٢٤ | ١٦ جمادى الثانية ١٤٤٦ هـ
البلاغ

القرآن وتنظيم الأسرة

د. رفعت حسان

القرآن وتنظيم الأسرة

◄نظرياً - بدون شك - القرآن هو المصدر الأعلى والأكثر موثوقية للإسلام القاعدي. إنّ أي تصريح قرآني واضح في أي موضوع، يُنظر إليه من قبل غالبية المسلمين الساحقة بأنّه بات وحاسم وفوق الشك. لكن القرآن ليس كتاب قوانين وتشريعات تتعاطى مباشرة مع كلّ قضية أو مشكلة يمكن تخيلها. إنّه كتاب حكمة إلهية، المقصود به توجيه المخلوقات الانسانية بحيث تستطيع تحقيق إمكانياتهم كمخلوقات إنسانية (فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ) (التين/ 4)، وتصبح خليفة الله في الأرض.

وحيث لا يوجد هناك نص أو نصوص صريحة في القرآن ترتكز مباشرة على القضية المعاصرة لتنظيم الأسرة، فإنّ القرآن لا يؤسس من خلال تعاليمه الإطار الأخلاقي الذي يمكن أن يتيح لهذه القضية ـ كبقية القضايا المعاصرة ـ أن تُناقش بكلّ تعقيداتها المتعدّدة.

إنّ المسلمين التقدميين الذين يدعمون تنظيم الأسرة غالباً ما يقولون أنّ القرآن صامت بشأن قضية تنظيم الأسرة، ويأخذون هذا الصمت على أنّه إشارة للإثبات وليس للرفض. على سبيل المثال أشار Fazlur Rahman إلى أنّ المرء "لا يجد في آيات القرآن ما يُنكر فكرة أنّه علينا التحكم في تعدادنا السكاني لوقت ما لمعالجة وضعنا الحالي".

من جهة أخرى، يشير المسلمون المحافظون من أمثال أبي الأعلى المودودي الذي يُصر أنّ (القرآن ليس صامتاً) في الموضوع، يشيرون إلى الإدانة القرآنية لعملية وأد البنات وهنّ على قيد الحياة التي كانت منتشرة في الحجاز ما قبل الاسلام (التكوير/ 8-9)، (النحل/ 57-59) وأيضاً إلى الآيات القرآنية التي تمنع أو تستهجن (قتل) الأطفال (الأنعام/ 137، 140، 151)، (الإسراء/ 31)، (الممتحنة/ 12) ويشيرون أيضاً إلى آيات - تدعم نزاعهم في أنّ زيادة النسل مبارك من الله - كما يلي:

(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالا كَثِيرًا وَنِسَاءً) (النساء/ 1).

(وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلا فَكَثَّرَكُمْ) (الأعراف/ 86).

(وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ) (النحل/ 72).

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً) (الرعد/ 38).

(وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ) (الفرقان/ 74).

يورد أيضاً المعارضون لتنظيم الأسرة تلك الآيات القرآنية التي تذكر أنّ كلّ الأرزاق من عند الله، يمنحها لكلّ مخلوقاته ويبارك بشكل خاص أولئك الذين لديهم ثقة بالله:

(وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ) (الأنعام/ 151).

(وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأرْضِ إِلا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا) (هود/ 6).

(وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ) (الطلاق/ 2-3).

وحول هذه الحجج المستخدمة من قبل المسلمين المحافظين لتأكيد أنّ القرآن معارض لفكرة تنظيم الأسرة، أحبّ أن أشير إلى:

1 ـ إنّ إشارات القرآن إلى (قتل) الأطفال (الذين - تبعاً لشهادة كلّ من النصوص الدينية والتاريخية - كانوا إناثاً وليس ذكوراً) كانت لأطفال قد تمت ولادتهم وليس لأطفال لم يولدوا بعد. ولذلك فليس لهم صلة بنقاش ما إذا كان تبعاً لتعاليم القرآن التحكم بالولادة مسموح به أم لا.

2 ـ إنّ إشارات القرآن إلى (قتل) الأطفال قد لا تشير في كلّ الأمثلة إلى القتل الفعلي للذرية بل قد تكون رمزاً لإساءة معاملة الأطفال كما أشير إليه من قِبَل (غلام أحمد بارويز) في قاموسه للقرآن أنّ جذر الكلمة العربية (قتل) لا يعني فقط القتل بواسطة سلاح أو سمّ بل أيضاً أن يذل ويحط من قدر أو يحرم من تعليم وتنشئة مناسبة.

3 ـ مع أنّ القرآن يشير بشكل متكرر إلى الله كخالق ومساند لكلّ الخلق فإنّه لا يخلي لا الأفراد ولا المجتمعات من مسؤوليتهم من أجل بقائهم وحسن أوضاعهم.

بل إنّه يُذكر المخلوقات الإنسانية باستمرار أنّ (كلّ امرئ بما كسب رهين).

وأنّ العقل المنطقي يرفع المخلوقات الإنسانية فوق كلّ المخلوقات الأخرى ويمكّنها من أن تصبح خليفة الله على الأرض.

إنّ الإيمان الصحيح متلازم مع الفعل الصحيح المستقيم (الأعمال) والذي يتضمن جهاداً متواصلاً للتغلب على العقبات الداخلية والخارجية التي تعوق جعل العالم مقر عدل وسلام والذي هو هدف الإسلام.

إنّ الله لن يغير ظروف المخلوقات الإنسانية حتى يغيروا ما بأنفسهم: (إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ) (الرعد/ 11).

وأنّ استخدام الإشارات القرآنية إلى قدرة الله أو وعده بإبقاء وتأمين قوت كلّ الخلق في مناقشة (من أجل تعداد غير محدد بالنسبة للمصادر الاقتصادية هو - كما أشير إليه من Fazlur Rahman - شيء صبياني).

بالتأكيد لا يقصد القرآن أن يقول أنّ الله يزوّد كلّ المخلوقات الحيّة بأقواتها سواء أكان المخلوق قادراً على تدبير قوته أم لا.

وحول الحجج المستخدمة من قبل المسلمين التقدميين أو (المتحررين) في دعم تنظيم الأسرة، أي أنّ القرآن صامت فيما يتعلّق بهذا الموضوع، مما يعني - على الأقل أنّه غير معارض لفكرة التحكم بالنسل - أود الإشارة إلى:

1 ـ إنّ غياب الحرب لا يعني بالضرورة وجود السلم، تماماً كما لا يعني غياب الأمراض وجود الصحّة. وبطريقة مماثلة، فإنّ حقيقة أنّ القرآن لا يقول أي شيء ضد فكرة التحكم بالنسل لا تعني بالضرورة أنّه يدعم تنظيم الأسرة.

2 ـ يتوقع العديد من مسلمي هذه الأيام، طالما أنّهم تربوا طوال حياتهم على أنّ (القرآن هو دستور كامل للحياة)، أن يجدوا فيه تصريحاً محدداً أو مباشراً يخصّ كلّ القضايا أو المواضيع الهامة بالنسبة لهم. وعندما لا يجدوا مثل هذه التصريحات فإنّهم يفترضون أنّ القرآن ليس لديه شيء ليقوله فيما يتعلّق بهذه القضايا، أو إنّ (الصمت) الملاحظ في القرآن فيما يتعلق بعدد من القضايا الهامة (المعاصرة) ـ كقضية تنظيم الأسرة مثلاً ـ تخلق فراغاً دينياً أخلاقياً يملاه الأفراد والجماعات المختلفة بطرق مختلفة. إنّ ما يجب فعله بشكل عاجل ـ في رأيي ـ هو إعادة نقدية جدية لفكرة أنّ القرآن دستور كامل للحياة.

بأي طريقة القرآن دستور حياة كامل؟ بالتأكيد إنّه ليس موسوعة من الممكن استشارتها للحصول على معلومات عينة عن نظرة الله لكلّ مشكلة أو قضية أو ظرف من الممكن أن يواجه الإنسان.

وكذلك ليس القرآن (دستوراً شرعياً) كما أُشير من قبل (محمّد إقبال). وبالنظر إلى القرآن ككتاب، يوجد فيه قوانين، تشريعات، قواعد، أو ضرائب جاهزة متعلّقة بكلّ شيء في الحياة، فقدَ عدد كبير من المسلمين رؤيتهم للهدف الرئيسي للقرآن، هذا الهدف ـ كما صرّح من قبل إقبال ـ هو (من أجل إيقاظ أعلى وعي في الإنسان، لعلاقته مع الله والكون.. الشيء المهم في هذا الاتصال هو وجهة النظر الديناميكية للقرآن).

مع أنّ القرآن لم يخاطب قضية تنظيم الأسرة بشكل محدّد ومباشر، لكن تعاليمه تلقي بكمية جيِّدة من الضوء حول كيفية فهم هذه القضية ـ وقضايا أخرى معاصرة ـ والتعامل معها ضمن الإطار الأخلاقي للإسلام المعياري.

على سبيل المثال يؤكّد القرآن بشكل كبير على ما يشار إليه عامّة بـ(حقوق الإنسان الأصلية) مثل:

أ ـ الحقّ باحترام إنسانية المرء: (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلا) (الإسراء/ 70).

ب ـ الحقّ بأن يعامل بعدالة ومساواة: (وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى) (المائدة/ 8).

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْط) (النساء/ 135).

ج ـ الحقّ بأن يكون حراً من التقليدية الفاشية (دينياً، فكرياً، سياسياً واقتصادياً) والقبلية، والطبقية، والتمييز الجنسي والعبودية. (البقرة/ 177، 256، 282) (آل عمران/ 79، 159)... إلخ.

د ـ الحقّ في الخصوصية والحماية من الافتراء والغيبة والسخرية. (النساء/ 148) (النور/ 27، 59)... إلخ.

هـ ـ الحقّ في طلب العلم. (الزمر/ 9). (العلق/ 1 ـ 5).

و ـ الحقّ في العمل الكسب والملكية. (النساء/ 11، 31).

ز ـ الحقّ في الإقامة في مكان آمن حيث تكون ممتلكات المرء وعقوده واتفاقياته مصانة، وحيث يستطيع المرء التنقل بحرّية. (البقرة/ 229)... إلخ.

ح ـ الحقّ في ترك المرء مكان نشأته تحت ظروف اضطهادية. (النساء/ 97).

ط ـ الحقّ في أن يطوّر المرء إحساسه بالجمال والتمتع بالهبات التي خلقها الله. (الأعراف/ 32). (الحديد/ 27).

ي ـ الحقّ ليس فقط في العيش بل في (العيش الكريم) والذي هو ممكن ـ تبعاً لرؤية القرآن ـ فقط في مجتمع عدل، لأنّ العدالة شرط أساسي للسلام والسلام شرط أساسي من أجل تحقيق الذات.

إنّ القرآن بالنسبة للمسلمين كونه كلام الله هو المصدر الأساسي والأكثر موثوقية في الإسلام. وكما ذكر آنفاً يؤكّد القرآن، بقوّة ويؤيد حقوق الإنسان الأصلية، وهذا يتبع أنّ هذه الحقوق يجب أن تكون معروفة ومصانة في كلّ المجتمعات والتجمعات الإسلامية.

بالنظر إلى الظروف الاجتماعية، الثقافية، الحضارية، الاقتصادية والسياسية البائسة لكثير من بلدان العالم الاسلامي اليوم حيث تعتبر زيادة معدلات الولادة من بين أعلى النسب في العالم، فإنّ الحاجة لتنظيم الأسرة يمكن النظر إليها كأمر بديهي.

إنّ الحقّ في استخدام وسائل منع الحمل خاصّة من قبل الجماهير المضرورة الذين حياتهم مهدّدة بالفقر الطاحن والأُمّية الكبيرة، يجب أن يُرى ـ في ضوء الرؤية القرآنية لما يجب أن يكون عليه المجتمع الإسلامي ـ كحقّ إنساني أساسي.

هذا قابل للتطبيق خصوصاً على النساء المسلمات اللواتي رغم كونّهن عددياً أكثر من 500 مليون لكنّهن ضمن أكثر الأقليات في عدم التمثيل والصمت والعجز في العالم.►

 

المصدر: كتاب الإسلام وحقوق النساء

ارسال التعليق

Top